حياة البرزخ الحياة بين الموت والقيامة في الإسلام
تهدف هذه الرِّسالة إلى الكشف عن المنظور الإسلامي إلى ما يحدث للمُسلم بعد الموت، وبيان تفاصيله، وذلك بالاعتماد على نصوص مروية، من أحاديث وآثار وأخبار، تيسَّرت وتوافرت في الآونة الأخيرة، وخصوصاً دائرة المعارف الإسلامية القيِّمة التي تولَّى تحريرها أرند جان فنسنك، بالإضافة إلى وجود تصوُّرات كثيرة وشائعة عن يوم القيامة في الدِّيانات القريبة من الإسلام، كونه مرحلة أخيرة من سلسلة الحياة الأخروية، ممَّا يلتقي بالمنظور الإسلامي الذي ذكره وحذَّر منه وأنذر، مع أن ما يثير الإنسان عموماً، ويحفِّز مُخيَّلته تحفيزاً قوياً هو ما ينتظره بعد انجلاء غُمَّة الموت، ومن هنا لاح مُتخيَّل الحياة بعد الموت بانتظار يوم القيامة، مُهدِّداً حاضر الحياة تهديداً مستمرَّاً، فتتراكم الأحداث المصيرية المُقدَّرة، وتزدحم في فترة درامية، تُسمَّى: حياة البرزخ.
تبدأ أفكار الأشخاص الأحياء بالتَّشكُّل، وهم حول القبر عند موت الأقارب والأصدقاء، لذا حَسِب مُحدِّثو أهل السُّنِّة والجماعة فترةَ مكوث الموتى في القبر، هي حياة البرزخ؛ وذلك لأن القبر عندهم مقام مؤقت بين الموت في الدُّنيا، والبعث في الآخرة، فبعد نهاية جميع الشَّعائر، من فراش الموت ثم الجنازة إلى الدَّفن، يدخل الموتى مرحلةً حافلةً بالأحداث، هي «يوم القيامة الابتدائي» إذا جاز التَّعبير، ويُكشف في القبر عن معتقدهم وأفعالهم، سواءً أكانوا مؤمنين أم كُفَّاراً، وتنال روحُ المؤمن الصَّالح بعضَ نعيم الجنَّة مُبكِّراً، وتنال روح الكافر الطَّالح نصيباً من عذاب النَّار.
ولا بدَّ لنا في هذا الصَّدد، من الإجابة عن سؤال: هل أرواح الموتى مُتحرِّرةٌ من الجسد، أو مُتَّحدة به؟، وعلى الرُّغم من عدم أهمية هذا التَّعارض في الظَّاهر من روايات الحديث المعهودة، فإن حياة البرزخ لا تمثِّل إلا قضايا الحياة الطَّبيعية المعيشة بظروفها وبيئاتها، تمثيلاً عجائبياً مُثيراً، كما قال الشَّاعر الإنجليزي پيرسي بيش شيلي: «إن الجحيمَ مدينةٌ تُشبه لندن كثيراً».
ولا بدَّ لنا أيضاً من ملاحظة أن الأحاديث اكتسبت قُدسيَّتها وحُجيَّتها منذ وقتٍ مُبكِّر، وأن علوم الحديث التي تعاملت مع اختلافات الرِّوايات وتضاربها نشأت نشأة تدريجية، فتطوَّر مُصطلح «برزخ»، من معنى الحاجز الفاصل بين شيئين مُختلفين المُستقى من القرآن، إلى معنى الحياة الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر، مما أضاف فائدةً مُهمةً في هذا المجال.
وانتقل الكلام إلى مستوى جديد، يمثِّل طابع عصر قائله عند المُتصوِّفة، فصار ذكر الموت عندهم ليس غايةً في حدِّ ذاته، إنما لبيان حياة المؤمن بعده، وقادت الرِّسالة الشَّخصية لرجلٍ مثل الغزالي الطَّريق إلى ذلك، وتوسَّع فيه ابن قيِّم الجوزية، فقدَّم الرِّوايات المُختلفة في نظام واحد، وانتهى إلى الغاية نفسها.
وهناك تصوُّرات مُتميَّزة مُتعلِّقة بالموت، ظهرت في رؤى وأحلام مدافن كنائس الشرق، لا بدَّ من تصنيف نصوصها وتحديدها، مع مراعاة تسلسلها الزَّمني وتوزيعها الجغرافي، وبيان صلتها بالمنظور الإسلامي لحياة البرزخ، على أن الأهمية القصوى هي لما تناوله علماء الدِّين المُسلمين من بين كلِّ ما تقدَّم، وما اعتبروه أمراً جوهرياً لازماً، خاصةً فيما يتعلَّق بدراسات علم مقارنة الأديان، حيث يُحذِّر الوحي الإلهي من أهوال يوم القيامة بعد الموت، ولكنَّ تفاصيل أحداث الموت وما يليه، وهي تأتي مرَّة واحدة فقط، توجب العودة إلى إضافات تفسير القرآن، وروايات الحديث عنها.
وتطرَّقنا إلى إجابة سؤال: هل يدلُّ مُصطلح «برزخ»، على زمان أو مكان؟، وذلك من خلال توظيفه في بعض النُّصوص، وسبر أغواره بعيداً عن عقيدة المذهب السُّنِّي المُتشدِّد، فقد حثَّ النَّظر الفلسفي في بيئة التَّصوُّف، والتَّطرُّق إلى مفهوم الموت، كونه نهاية زمان الوجود، إلى التَّأمُّل في أمر النَّفس، وإدراك ماهيتها، مع أن المصائر المُتغيِّرة وصراع الأنفس على العودة إلى الدُّنيا، والتَّقلبات التي يمرُّ بها المُسلم؛ لبلوغ يوم القيامة، تُشير إلى أحداثٍ مُشابهة في القرآن.
ولا يعني تصوير أحداث الآخرة من خلال ظواهر نفسية في القرآن، أنها تُغيِّر أحداث الموت تغييراً كاملاً. فضلاً عن أن استخدام مُصطلح «برزخ» استخداماً فلسفياً ودينياً كما تبنَّاه كثيرٌ من العلماء المُسلمين، يُبيِّن قرب دلالته من الدَّلالة القرآنية، وأنها تطوَّرت إلى الدَّلالة على المكان، كما عند مُحيي الدِّين بن عربي.

















الرئيسية
فلتر
لا يوجد مراجعات